علم الفلك عند العرب
هذه المفازة الشاسعة التي تحتل المساحة الكبرى من شبه جزيرة العرب، كان من الضروري أن يجد العرب ما يهتدون به فيها، وإلا فسيواجهون التيه والموت.
وكعادة أهل الصحراء في التنقل والترحال وراء الماء، والطعام، والعشب، فكان لابد لهم من وسيلة لرصد المواقع وتحديدها.
وبعد فرض الإسلام للصلاة والصوم لم يكن بُدٌّ أيضًا من تحديد المكان؛ وذلك للاتجاه إلى المسجد الأقصى ومن بعده إلى الكعبة المشرَّفة في خمسة أوقات محددة يوميًّا، وكذلك تحديد شهور السنة الهجرية وتعيين الأهلّة؛ فأعياد المسلمين وصومهم يعتمدان على القمر ومواضعه اعتمادًا كليًّا. وذكر الاهتداء بالنجوم واردٌ في القرآن، هذا غير الآيات القرآنية التي تدعو إلى التأمل في خلق الأكوان والتفكر فيه.
بدايه الاهتمام الفعلى بعلم الفلك عند العرب
كل هذه المقدمات والأسباب جعلت علم الفلك من ضرورات البقاء عند العرب، وجعلتهم يتعمقون فيه بالرصد، والتحليل، وإقامة النظريات، واختراع الآلات الفلكية لرصد هيئة السماء نهارًا وليلًا. ولا شك أن إسهامات العرب في علم الفلك في القرون الوسطى أو العصور الذهبية للحضارة العربية لا ينكرها الداني أو القاصي. فيكفينا أن نعرف أن أسماء النجوم والكواكب قد اكتشفها العرب وحددوا مداراتها منذ أكثر من ألف وخمسمائة سنة عربية إلى يومنا هذا، وكذلك بعض المصطلحات الفلكية؛ مثل: المقنطرة، والسمت، والعهدة.
اهم علماء الفلك المسلمين
عبد الرحمن الصوفي
ولعل من أبرز المصادر التي وصلت إلينا في مجال الرصد كتاب عبد الرحمن الصوفي –المتوفى سنة 376ه/ 976م– بعنوان «صور الكواكب الثمانية والأربعين»، الذي تحدث فيه عن الكواكب في السماء التي بلغت ثمانية وأربعين كوكبًا، ورسمها رسمًا تقديريًّا كما تخيلها العرب وقتها دون استخدام الآلات الحديثة المعقدة في وقتنا هذا. وتابعته من بعده ابنته أرجوزة بنت الصوفي في أرصاده، بالإضافة إلى تطوير علماء الحضارة الإسلامية وقتها لآلات الرصد والتقريب.
ابن الهيثم
ولنا أن نتخيل أيضًا أن ابن الهيثم بإمكانات عصره –وهو المتوفى سنة (430ه/ 1040م)– كتب رسالة بعنوان «ماهية الأثر الذي يبدو على وجه القمر» يدرس فيها ويتناول بالتحليل العلمي ماهية تضاريس القمر وفوَّهاته البركانية.
ابو عبد الله البتانى
ومن قبلهما كان أبو عبد الله البتاني –المولود سنة (240ه/ 854م) وهو أحد أهم علماء الفلك والرصد في العالم؛ مما دفع البعض إلى تسميته ببطلميوس العرب. وإن كنت قد درست علم حساب المثلثات ودرست مقلوبات النسب المثلثية (دالة الجيب، ودالة تمام الجيب، ودالة الظل)، فاعلم أن هذا الرجل هو من كان له الفضل في وجودها، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
الخوارزمى
ولو ذهبنا إلى القرن الثاني الهجري؛ الثامن الميلادي، لوجدنا الخوارزمي الذي ارتبط اسمه بعلم الجبر وإسهاماته العظيمة فيه، له باعٌ آخر كبير في علم الهيئة والرصد. فجاء أول كتاب وهو «زيج السند» نقطة تحول في علم الفلك الإسلامي؛ فتناول الكتاب رصد حركة الشمس، والقمر، والكواكب الخمسة المعروفة آنذاك؛ حيث أدخل المفاهيم المترجمة من الهندية ومفاهيم بطلميوس إلى علم الفلك العربي، وطورها؛ حيث انطلق منها إلى اكتشافات جديدة في علم الهيئة.
نصير الدين الطوسي
ولا نستطيع التحدث عن علم الفلك والرصد بدون ذكر مرصد مراغة غرب مدينة مراغة بأذربيجان، الذي أسسه عالم الفلك الرياضي الكيميائي الفيزيائي الفيلسوف المتكلم الطبيب نصير الدين الطوسي سنة 657ه/ 1259م،
وشارك فيه علماء كثُر؛ أمثال:
قطب الدين الشيرازي، وابن الشاطر، ونجم الدين القزويني، وعلي القوشجي، وعبد العلي البيرجندي، وشمس الدين الخافري، ومحيي الدين المغربي، وابن الفوطي وغيرهم كثير. واحتوى المرصد على أكثر من أربعمائة ألف مجلد، فجعل منه أول أكاديمية للبحث العلمي في مجال الفلك والرصد، ثارت على مبادئ وأفكار بطلميوس في الفلك.
البيرونى
أما البيروني (أبو الريحان) الذي ولد سنة (362ه/ 963م) بعاصمة الدولة الخوارزمية، والذي وصِفَ أنه من بين أعظم العقول التي عرفتها الحضارة الإسلامية، فكان له باع طويل في علم الهيئة والرصد، وجاءت تصميماته للأسطرلابات وآلات رصد المواقع، والنجوم، والكواكب وتطويرها – فتحًا لعلم الفلك والرصد، وتمهيدًا للساعة الميكانيكية؛ فهو أول من اخترع الأسطرلاب العمودي في العقد الأول من القرن الحادي عشر، وهو أيضًا أول من قال بأن الأرض تدور حول محورها.
وغير هؤلاء العلماء والأعمال كثير كثير؛ حيث تصل مخطوطات الفلك وعلم الهيئة وكيفية الرصد في التراث العربي المخطوط إلى آلاف المخطوطات التي تحتاج إلى كشفها أو إعاده اكتشافها.
وهكذا جاء علم الفلك ضرورة للبقاء عند العرب المسلمين، ولتطبيق شرائع دينهم الحنيف وفرائضه، وما كان هذا المقال إلا قطرات من محيط إسهامات الحضارة العربية في هذا المجال.